كورونا: لا هلع ولا استهتار

كورونا بين لاءَين: لا هَلَعَ ولا استهتار

مجاهد مأمون ديرانيّة

-1-

في عام 1918 كان العالَم يكافح لإنهاء واحدة من أسوأ الحروب التي عرفها التاريخ حتى ذلك الحين، حرب عالمية استمرت أربع سنوات وأربعة أشهر وغطت نصف الأرض وفتكت بعشرين مليون إنسان.

فيما كانت الحرب العالمية تنحسر عن العالم كان عدوٌّ أكثرُ شراسةً قد انطلق من عقاله وراح ينشر في الدنيا الموت والعذاب، فيروس صغير لا تراه العين انتشر في الكوكب كله وأصاب واحداً من كل أربعة من سكانه، وبعد معركة طويلة يائسة استمرت عامين كاملين انحسر الوباء مخلّفاً وراءه ما يزيد على خمسين مليون وفاة.

-2-

يسمَّى المرض “وباء” [epidemic] عندما ينتشر انتشاراً سريعاً ويصيب عدداً كبيراً من الناس في بقعة جغرافية محدودة، فإذا ازداد انتشاراً وغطى مناطق واسعة متباعدة وتضاعفت أعدادُ المصابين به بسرعة صار اسمه “جائحة” [pandemic] أو وباء عاماً. ولا شك أن قدرة أي وباء على القتل تجعله خطيراً، غير أن الخطورة الحقيقية في الأوبئة تأتي من قدرتها على الانتشار السريع أكثر من قدرتها على القتل، ففيروس إيبولا أشد فتكاً من فيروس كورونا، إلا أن انتشاره أبطأ بما لا يقاس والسيطرة عليه أسهل بكثير.

في أحد خطاباته المبكرة عن الوباء الجديد حاول الرئيس الأمريكي التقليل من شأنه بمقارنته بالأنفلونزا الموسمية التي يموت بسببها مئات الآلاف كل عام. وهذه المقارنة مضلّلة تماماً، لأن الأنفلونزا السنوية التي تسرح وتمرح في طول العالم وعرضه كل شتاء تصيب واحداً من كل ألفين من سكان الكوكب بالمتوسط، أما وباء كورونا الجديد فإنه يمكن أن يصل إلى واحد من كل اثنين من الناس لو فقد العالمُ السيطرةَ عليه، فهو سريع الانتشار بشكل مذهل، وحتى نسبةُ قتل متدنية لا تتجاوز ثلاثةً بالمئة تجعله فتاكاً جداً ومخيفاً جداً مقارَنةً بسائر الأمراض.

-3-

كثيرون تساءلوا باستغراب: هل يستحق وباء كورونا هذه الضجةَ وتلك التدابيرَ الصارمة والاحترازات الشديدة التي اتخذتها كل دول العالم اليوم؟ الجواب: نعم، بالتأكيد، لأن فقدان السيطرة على الوباء تعني أنه سينتشر بنفس الطريقة التي انتشر بها وباء الأنفلونزا الإسبانية سنة 1918، ولن يُستبعَد أن يصاب به ثلاثة مليارات إنسان ويموت بسببه مئة مليون.

لعل أصدق كلمة قيلت في التعامل مع المرض، أيّ مرض، هي “الوقاية خير من العلاج”. فتجنُّبُ الوقوع فيه أفضل من علاج آثاره وأسهلُ وأقل ألماً وكلفة، هذا لو أن العلاج كان ممكناً أصلاً، فكيف ولا علاجَ لهذا المرض الجديد؟ كيف والأعدادُ الهائلة للمرضى تستنزف القدرات المحدودة للمؤسسات الطبية؟ حتى دولٌ كبرى انهارت منظوماتها الصحية عندما تعرضت لهذا الامتحان العصيب، فكيف لعاقل أن يخوض مغامرةً الثمنُ فيها ملايينُ الأرواح؟

-4-

الإسلام ليس مرجعاً في الطب، غيرَ أن تعاليمه الشاملة التي نظّمت حياة الناس لم تَغفُل عن أساسياتٍ تتعلق بسلامة الفرد والجماعة، فما هي توجيهاته في الصحة والعلاج، في الأمراض العادية والأوبئة العامة؟

أما على مستوى الفرد فأمَرَ الدينُ بالتداوي من المرض إذا وقع المرض، ولكنه حثّ على اتّقائه ما أمكن اتقاؤه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء”، وهي دعوة صريحة لطلب العلاج. وقال: “لا يورِدنّ مُمْرِضٌ على مُصِحّ”، وهي دعوة لعدم اختلاط المريض بالأصحّاء.

وأما على مستوى الجماعة فالعمدة في الباب هو حديث الطاعون: “ليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد”، وفي رواية عند أحمد: “فيمكث في بيته”. وهذا الحديث -بلفظَيه- حُجّةٌ في العزل الفردي والجماعي الذي تمارسه أكثر الدول اليوم.

-5-

من عَجَبٍ أن يلتفت إلى هذه المعاني مَن لم ينشأ في الإسلام ولم يكن الإسلامُ له ديناً ويتجاهلَها من نشأ فيه وهو دينُه ودين آبائه.

الدكتور كريغ كونسِداين محاضرٌ في علم الاجتماع في جامعة رايس (هيوستون، تكساس) وباحث ومؤلف في الإسلام والتاريخ الإسلامي وكاتب في كبرى الصحف الأمريكية: نيويورك تايمز وواشنطون بوست وفورين بوليسي وغيرها، وهو أمريكي كاثوليكي من أصل آيرلندي إيطالي. نشر قبل أيام مقالة في مجلة نيوزويك بعنوان: “هل يمكن مكافحة الوباء بالدعاء وحدَه؟ النبي محمد كان له رأي مغاير”.

وصف الدكتور كونسداين في مقالته توصيةَ الأطباء الرئيسية لمحاصرة الوباء: النظافة والعزل، ثم قال: “هل تعلمون مَن أيضاً اقترح هذه الوسائل ذاتها لعلاج الأمراض والأوبئة؟ إنه نبي الإسلام محمد الذي قدم نصيحة ثمينة لمحاربة وقمع فيروس قاتل مثل الكورونا…” ثم استفاض في عرض الأحاديث التي قرأتموها قبل قليل، ومعها حديث التوكل الذي أمر فيه النبي عليه الصلاة والسلام الأعرابيَّ بعَقْل ناقته ثم التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب. ثم ختم مقالته بهذه الكلمات المعبّرة: “كان محمد يأمُل أن يتخذ الناس إجراءات وقائية احترازية من شأنها ضمان سلامة المجتمع واستقراره، أو بكلمات أخرى: أراد أن يتبع الناس نداء العقل السليم في مثل هذه الظروف” (نص المقالة الكامل في الرابط تحت هذا المنشور).

-6-

ليس المطلوب أن يفزع الناس وهم يواجهون هذا الوباء الخطير، فالفزع قَتّال، وقد رأيت ضحاياه بعينَي رأسي قبل ثلاث وأربعين سنة لمّا تطوعت مع جوالة جامعة الملك عبد العزيز (وأنا طالب فيها) لإرشاد الحجاج في المشاعر. وقعت يومها مَقتلة في يوم النحر عند الجَمرة الكبرى؛ تعثّر بعض الحجاج فسقطوا وسقط فوقهم غيرُهم، فانتشر الفزع وتدافع الناس حتى وطئ بعضهم على بعض ومات بضعة وأربعون منهم دعساً تحت الأرجل، وكدت أموت معهم لولا لطف الله، ولو ضبطوا أنفسهم وتحركوا بهدوء لنجوا جميعاً، رحمهم الله.

ولكن الإفراط في التهاون بالمرض والاستخفاف به ليس أقلَّ شراً من الإفراط في الخوف منه والهلع بسببه، فالوَلاّجون الخَرّاجون الذين يستهترون بخطر العدوى ويتزاحمون ويتخالطون يساعدون على نقل فيروسات المرض ونشرها في المجتمع، فيضرّون أنفسهم ويضرّون غيرهم من الناس، وهم آثمون.

انظروا إلى هذا الحديث الوجيز العظيم الذي قدّم قاعدة من أعظم القواعد الإنسانية: “لا ضرر ولا ضرار”. الضرر معروف، والضرار هو مصدر الفعل “أضَرّ”، بمعنى التسبب في الضرر للآخرين. فصار معنى الحديث: غيرُ مسموح لأي فرد في المجتمع أن يضر نفسه أو يضر غيرَه، ومن صنع ذلك فإنه آثم لمخالفته توجيهَ النبي الصريح، عليه صلاة الله وسلامه، وللسلطة التنفيذية في أي بلد أن تمنعه بقوة القانون، لأن من واجبات السلطة توفير الأمان للمجتمع وعموم الناس.

-7-

الخلاصة: الإنسان العادي يجنح بطبيعته إلى التبسيط ولا يحبّ التفكير بالحلول المركبة، لذلك يختار أكثرُ الناس الميل إلى أحد الطرفين في أي مسألة تعرض لهم، و”كلا طرفَي قصد الأمور ذَميمُ”. الإنسان العاقل يقاوم الكسل العقلي ويُتعب نفسه للوصول إلى الرؤية الصحيحة في أي مشكلة، وهي غالباً موقف وسيط بين الآراء المتطرفة، وهي في حالة هذا الوباء تحديداً: استجابةٌ عاقلة واعية تبتعد عن الهلع العشوائي (الذي رأينا من صوره في أمريكا ما لم نَرَ مثله في بلادنا بحمد الله) وتبتعد أيضاً عن الاستهتار والاستخفاف اللذين من شأنهما مسارعة انتشار الوباء وخروجه عن السيطرة لا قدّر الله.

لقد أصدرت كل دول العالم تقريباً قوانينَ مؤقتة وتعليمات صارمة من شأنها محاصرة الوباء، والعقلُ والشرع يقتضيان اتباعَ تلك التعليمات واحترامَ القوانين طالما أنها تهدف لتحقيق الصالح العام، وإنّ تَحَدّيها ومخالفتها ليس سلوكاً حضارياً ولا شرعياً ولا هو دالٌّ على الرجولة والشجاعة.

قبل نحو عشرة أيام دخلت إلى القاموس الإنكليزي كلمة جديدة صفةً للشخص الذي يستهتر بوباء كورونا ويتحدى توجيهات السلطات الصحية الساعية إلى الحد من انتشاره: “كوفِدْيوت” [covidiot] (اشتقاقاً من اسم الفيروس). المطلوب أن لا نكون كوفِديوتيّين مستهترين ولا فَزِعين هَلِعين، المطلوب موقف وسط بين الوقوع ضحايا لفوبيا كورونا أو الاستخفاف الكامل به. المطلوب موقف إسلامي وعقلاني يهتدي بهدي النبي عليه الصلاة والسلام وبهدي الفطرة السويّة والعقل السليم: الحرص الشديد والاحتياط الكامل، مع الاتكال الحقيقي على الله والرضا الكامل بقضاء الله.

حماكم الله من البلاء والوباء.

_______________

* رابط مقالة الدكتور كونسيداين

https://www.newsweek.com/prophet-prayer-muhammad-covid-19-coronavirus-1492798

#كورونا
#سلامتك_في_بيتك
#الزم_بيتك
#خليك_بالبيت
#Corona
#COVID19

هذا المنشور نشر في رسائل الثورة وكلماته الدلالية , , , , , , , , , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

التعليقات