الموت ولا المذلّة

العطار

“الموت ولا المذلّة”

بين شاعر العصر الأموي وثوار سوريا الأحرار

مجاهد مأمون ديرانيّة

الأستاذ عصام العطار، زوج خالتي العزيز عافاه الله، شاعر مبدع وراوية من الحفّاظ الموهوبين، يحفظ من ديوان العرب ما تفرّق في الجماعة من حَفَظة الشعر ورُواته، لا يضاهيه في هذه الموهبة ممّن أعرف سوى عمّ أمي الشيخ سعيد الطنطاوي الذي ينتمي إلى طبقة “حمّاد الراوية”، وهو في قوة الذاكرة من أعاجيب الزمان، ولعلّه يحفظ نصفَ ما رَوَتْه العربُ من الشعر قاطبة. وكان الاثنان في الأيام الخوالي في الشام يتساجلان بالشعر، فربما بدآ بعد العشاء فلم يقطعهما إلا أذانُ الفجر.

 

لمّا كان عصام العطار على هذا المبلغ من الحفظ والرواية فقد كان ينبغي أن أحفظ منه وأروي عنه عشرات من جَيائد القصائد، إن لم يكنّ مئات. لكني كلما تصورته وهو يلقي الشعر بلهجته الفخمة المتميزة لم تخطر ببالي إلاّ قصيدةٌ واحدة استقرت في ذهني لكثرة ما سمعتها منه، فإنه ما يزال يتمثّل بها في كل حين وآن، حتى ليحسّ سامعُه أنها المركب الذي قطع على ظهره رحلةَ الحياة الطويلة الحافلة بالتحديات والصعوبات. هي قصيدة شاعر العصر الأموي إبراهيم بن كنيف النبهاني التي يقول فيها:

 

تَعَزَّ فإن الصّبرَ بالحُرّ أجملُ   ***   وليس على ريب الزّمان مُعَوَّلُ

فلو كان يُغني أن يُرى المرءُ جازِعاً   ***   لِحادثةٍ أو كان يُغني التذلُّلُ

لكان التّعزّي عند كل مُصيبةٍ   ***   ونائِبةٍ بالحُرِّ أَوْلى وأجملُ

فكيف وكلٌّ ليس يعدو حِمامَهُ   ***   وما لامرِئٍ عمّا قضى الله مَزْحَلُ

فإنْ تكنِ الأيامُ فينا تبدَّلَتْ   ***   بِبُؤْسَى ونُعْمَى والحوادثُ تَفعلُ

فما ليَّنَتْ مِنّا قَنَاةً صَليبَةً   ***   ولا ذَلَّلَتْنا للتي ليس تَجْمُلُ

ولكن رحَلْناها نفوساً كريمةً   ***   تُحمَّلُ ما لا يُستَطاعُ فتحمِلُ

وقَيْنا بحسن الصبر منّا نُفوسَنا   ***   فَصَحّتْ لنا الأعراضُ والناسُ هُزَّلُ

*   *   *

 

يقول الشاعر المسلم العربي الأبيّ الكريم: تجمَّلْ وتصبَّرْ يا أيها الحُرّ، فإنك لا تأمنُ تقلّبَ الزمان ولا تدري ماذا تحمل الأقدار، وإنّ التصبّرَ والتجمّل شأنُ الأحرار، أمّا الهوان والذلّة والخضوع فإنها من شأن العبيد. ولو أنّ الجزع عند المصيبة يُغني صاحبَه وينجّيه منها لكان تركُه والتصبّر أَوْلى وأعلى، فكيف وهو لا يُغني ولا يدفع قَدَراً، لأن القضاء واقعٌ لا محالةَ في كل حال؟

 

ثم يقول: صحيحٌ أنّ الأحوالَ تبدلت وأنّ الزمانَ دار، فغدَونا من بعد النعيم والسرّاء في بؤس وضرّاء، وكذلك تفعل الأيام بالناس، لكنّ الانتقال من النعماء إلى الضرّاء لم يكسر نفوسَنا ولم يُضعف عزائمنا، ولا حوّلَ صلابتَنا وشدّتنا وعزّتنا إلى رخاوة ولين وضعف واستسلام. بل إننا حمَلْنا في رحلتنا العَصيبة وأيامنا البئيسة نفوساً أبيّة كريمة، وحمّلناها من الأثقال ما يَعْسُر حمله فحمَلَتْه. وما زلنا صابرين حتى حققنا المراد ووصلنا إلى الغاية، فكان الصبر حجاباً لنا من الذلّة والهوان والخسران، وخرجنا من ذلك كله سالمين بما صبَرْنا، وخرج سائرُ الناس مهزولين مهزومين بأنهم كانوا لا يصبرون.

 

*   *   *

 

هذه القصيدة الطويلة لخصها الشعب السوري بثلاث كلمات، يوم أعلن الملايينُ منه ذات يوم هاتفين: “الموت ولا المذلّة”. لم يرفعوها شعارات كاذبةً جوفاء كشعارات الممانعة والمقاومة التي رفعها نظام الغيّ والبغي والإجرام، بل أعلنوها شعارات صادقة، أخلصوا لها ودفعوا ثمنها أنفساً كراماً في طريق التضحية الشاق الطويل. بهذه المعاني الجليلة العظيمة سيقطع الشعب السوري ما بقي من رحلته المُضنية وصولاً إلى بَرّ الأمان إن شاء الله.

 

اللهمّ إنا نسألك صبراً جميلاً على الضراء، ونسألك أن تنقلنا من البأساء إلى النعماء والرخاء، ونسألك النصر الأعجل في الدنيا والجزاء الأجمل في جنات النعيم.

 

هذا المنشور نشر في خواطر ومشاعر, رسائل الثورة وكلماته الدلالية , , . حفظ الرابط الثابت.

1 Responses to الموت ولا المذلّة

  1. محمد عبد الله كتب:

    أستاذ مجاهد
    السلام عليكم
    كنت قد أرسلت لك رسالة بالايميل منذ حوالي الأسبوع و أريد فقط ان اسأل ان كنت قد أستلمتها. شكراً لك و السلام.

التعليقات