أمريكا باعت سوريا لإيران (2)

_143689126015_1

أمريكا باعت سوريا لإيران

(2 من 2)

مجاهد مأمون ديرانية

-7-

قبل ثلاث سنوات نشر جورج فريدمان، مؤسس معهد ستراتفور الشهير ومديره التنفيذي، نشر مقالة مهمة بعنوان “المبادئ السياسية الجديدة للولايات المتحدة”، قال فيها: “إن ما يحدث في سوريا سوف ينشئ مبادئ سياسة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها الخارجية، سياسة لا تتحمل فيها أمريكا المسؤوليةَ الرئيسية عن الأحداث، لكنها تسمح للأزمات الإقليمية بأن تتفاعل وصولاً إلى توازن إقليمي جديد”.

لنفكر قليلاً: ما هو التوازن الذي تسعى أمريكا للوصول إليه في منطقتنا في نهاية هذا الصراع المدمّر الدامي الطويل؟

رأينا في الحلقة الأولى من هذه المقالة كيف طورت الولايات المتحدة علاقاتها بإيران خلال نصف القرن الماضي، ولو أننا حذفنا التفاصيل الصغيرة التي تشوّش الرؤية فسوف ننجح في مشاهدة الحقيقة الكبيرة الجليّة الواضحة: لقد صار من ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة -منذ ست وأربعين سنة- التحالف مع إيران على حساب بقية دول الإقليم، لذلك قلت ذات يوم إن لأمريكا ثلاث إستراتيجيات كبرى في الشرق الأوسط لم تتغيّر خلال نصف قرن (ولا يبدو أنها ستتغير على المدى المنظور): أمن الطاقة، وأمن إسرائيل، والتحالف الإستراتيجي مع إيران.

-8-

يبدو أن الشعب السوري الحر الأبي يدفع ضريبة الاتفاق النووي الأخير، وما إطلاق اليد الإيرانية لتعبث بسوريا إلا واحدة من تجليات هذا الاتفاق المشؤوم، وهي جريمة جديدة تُضاف إلى سجل أمريكا الأسود في سوريا، من أيام انقلاب حسني الزعيم الذي اغتال الحلم الوطني الناشئ، إلى تكريس نظام الطاغية الكبير حافظ الأسد، ثم رعاية انتقال السلطة إلى الوريث، ثم إطالة المحنة على أهل سوريا عن طريق الحصار القاسي ومنع وصول السلاح النوعي، ولا سيما مضادات الطيران التي تسبّبَ منعُ وصولها إلى ثوار سوريا في مضاعفة أعداد الشهداء، بحيث يمكننا أن نقول -غيرَ مبالغين- إن أمريكا الآثمة تحمل في رقبتها دماء مئة وخمسين ألف شهيد قضوا في غارات وبراميل النظام.

سيقول كثيرون: لم تأتِ بجديد، فنحن نعلم أن إيران تدير الحرب في سوريا منذ عامين على الأقل وأنها صارت هي الآمرةَ الناهيةَ منذ شهور طويلة.

أقول: بلى، ثمة جديد. ثمة خطر لم تواجه سوريا مثيلاً له منذ قرون. لقد تعاقبَ على سوريا خلال القرن الأخير حكمُ الاتحاديين الطورانيين الذين سيطروا على الدولة العثمانية وسَعَوا إلى تتريك الممالك العربية، وحكمُ الغزاة الفرنسيين الذين أخضعوا سوريا لسلطانهم السياسي والعسكري، وحكمُ حزب البعث الشمولي وحكم الأسد الطائفي اللذان أذلاّ أهل سوريا واستبدّا بالحكم دون كرام أهل الشام. ولكنّ سوريا سَلِمتْ في هذه العهود السوداء كلها من الطمس والتغيير، فبقيت سوريا هي سوريا وبقي السوريون هم السوريين.

-9-

اليوم تواجه سوريا مصير العراق بعد سقوط صدام، حينما قدّمت أمريكا العراقَ لإيران على طبق من ذهب وقالت لها: “اصنعي بالعراق ما تشائين، لا نريد عراقاً عربياً سنّياً واحداً بعد اليوم”. منذ ذلك اليوم المشؤوم لم يعد العراق هو العراق. ما زال العراق الجريح يدفع ثمن هذه الصفقة الفاجرة إلى اليوم، وقد دخل في نفق مظلم لا تبدو في آخره شُعاعةُ ضوء. أخشى أن أمريكا تدفع سوريا في النفق نفسه، أخشى أنها باعت سوريا لإيران وقالت لها: “اصنعي بسوريا ما تشائين، لا نريد سوريا العربية السنّية الواحدة بعد اليوم”.

لقد احتلت إيران العراق حرفياً بعد الغزو الأمريكي، واحتلت لبنان عملياً بمباركة أمريكية، وأوشكت أن تحتل البحرين لولا التحرك السريع لدرع الجزيرة، وما تزال عينها عليها ولن تتخلى عن أطماعها فيها، وكادت تحتل اليمن لولا عاصفة الحزم، وسوف تستمر بالسعي إلى احتلاله بالخبث والدهاء ما بقي للحوثيين وجود سياسي في البلاد. ماذا بقي؟ سوريا، خط الدفاع الأخير.

-10-

ربما ظن أهل سوريا أنهم يخوضون المعركة دفاعاً عن سوريا، وهذا صحيح جزئياً، ولكن الأصحّ هو أنهم يخوضون المعركة دفاعاً عن الأمة الإسلامية وعن بلدان السنّة في الإقليم، فلو أن إيران انتصرت وانهارت سوريا -لا قدّر الله- فقد يتغير تاريخ المنطقة إلى الأبد، كما تغير تاريخ فارس بعد انتصار الشاه إسماعيل قبل خمسة قرون.

ولكنّ هذا لن يكون بأمر الله، لا يمكن أن يحصل؛ لن يسمح أحرار سوريا بسقوط سوريا ولو استمروا بالمعركة عشر سنوات وعشرين وثلاثين، فإنهم يعلمون أن منع الكارثة أهونُ من علاج آثارها، وهم ينظرون إلى العراق فيرَون بعين الخيال ما سيحصل في سوريا لو أنهم هُزموا: إبادة وتهجير وتطهير عرقي وتغيير ديمغرافي… إنه عذاب عشرين مليون إنسان لمئة سنة قادمة لا قدّر الله.

-11-

يعلم أهل سوريا اليوم أنهم باتوا يخوضون المعركة مع إيران وجهاً لوجه وأن إيران مصمّمة على ضم سوريا إلى سلطانها، وبقي عليهم أن يعلموا أن هذا العدوان الإيراني الصارخ لم يتم إلا بمباركة أمريكية ودعم أمريكي. عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة وهم يخوضون المعركة السياسية في دهاليز السياسة وكواليسها كما أدركوها وهم يخوضون المعركة العسكرية في الميادين والجبهات. عليهم أن يستعدوا لمواجهة ميراث ثلاثة آلاف سنة من الدهاء الفارسي، وأن يستعدوا لمواجهة الإستراتيجية العسكرية الإيرانية التي تعتمد على الهدر البشري لتحقيق الأهداف الحربية، وقد رأينا ذلك في الحرب العراقية الإيرانية التي قدمت إيران فيها الدماء بلا حساب.

إن العالم يتكالب على ثورتنا في هذه اللحظات كما لم يفعل من قبل، وما قرار مجلس الأمن الذي اتُّخِذ قبل أسابيع بالإجماع، نعم، بالإجماع وبالصوت الروسي أيضاً، ما هو إلا إرهاص لما هو قادم، ومعه نصف دستة من الإرهاصات المقلقة: تقرير وتوصيات ديمستورا، ومؤتمر موسكو، ومجموعة الاتصال الجديدة التي تضم روسيا وإيران، والتحضير الحثيث لجنيف الثالث، وفوق ذلك كله: غزو عسكري روسي سافر، وما تزال الأيام حُبالى بالمزيد.

-12-

الخلاصة: إن القوى الدولية التي سيطرت على عالمنا العربي والإسلامي خلال القرن المنصرم ما تزال مصرّة على حماية نفوذها ومصالحها في سوريا، ولا سيما أمريكا، أم الخبائث والكوارث في العالم المعاصر. إنهم ماضون في تكريس بقاء نظام الحكم الطائفي النصيري، سواء بالأسد أو بغيره، مع تأكيد الدور الإيراني في سوريا الذي صاروا يعتبرونه دوراً حتمياً ما منه مناص. وأكاد لا أشك أنهم يسعون إلى إنتاج الحالة العراقية الكئيبة: الحكم الحقيقي للمندوب السامي الإيراني، يحكم من وراء نظام طائفي يشبه نظام المالكي والعبادي، ويكرس سلطته مستعيناً بعدد من المليشيات الطائفية التي ستُحيل حياة السوريين إلى جحيم لا يُطاق وإلى عذابات لا تنتهي، ربما جعلتهم يترحّمون على أيام الأسد.

لا أقول إن “الثورة” تواجه اليوم خطراً لم تواجه مثله من قبل، بل أقول إن “سوريا كلها” تواجه خطراً لم تواجه له من قبلُ مثيلاً، ولا في خمسة قرون. إن سوريا تواجه خطر السقوط في الثقب الإيراني الأسود لا سمح الله.

عندما نواجه خطراً بهذا الحجم الهائل تذوب كل المطالب ويصبح من الترف الفكري، بل من البلاهة والإجرام، الاختلافُ على شكل الدولة وهُويّة الثورة والتمترس وراء الفصائل والرايات.

إنني أعلم أمراً واحداً: كل هذه التفاصيل التي يجري تصويرُها اليومَ على أنها أُمّات القضايا وأصول الثورة الكبرى ستغدو ذكريات باهتة إذا لم يَعِ قادةُ الثورة حقيقة التحدي، إذا لم يضحّوا بالمشروعات الجزئية لصالح المشروع الكلي، إذا لم يوحّدوا الرايات والغايات ويبيعوا أنفسَهم وفصائلهم لله، إذا لم يصطفّوا جميعاً في خندق واحد لقتال النظام وحلفاء النظام، من داعش وحالش إلى روسيا وإيران.

إن فعلوا أنقذوا أنفسَهم وأنقذوا سوريا، وإلّمْ يفعلوا ستلعنهم الأجيال ويلعنهم التاريخ ويحلّ عليهم غضب الله.

هذا المنشور نشر في رسائل الثورة وكلماته الدلالية , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

1 Responses to أمريكا باعت سوريا لإيران (2)

  1. بارك الله في الأستاذ ديرانيه…
    تعليقي: هذا الموقف القوي والتصور الواضح للدور الأميركي في تثبيت نفوذها في سوريا، أقول هل يناسب هذا الموقف وهذا التصور ما صدر من أحرار الشام على لسان لبيب النحاس في الواشنطن بوست ” ما زالت الفرصة سانحة للولايات المتحدة الأمريكية لتغيير مسارها، “الخيار الثالث” الذي طرحه جون كيري موجود، ولكن على واشنطن أن تفتح عينها وتبصره.”؟!
    وبالمناسبة موقف الأحرار هذا استحق قبلة من الأستاذ ديرانية مثلما استحق عبد بن حذافة قبلة من الفاروق عمر!
    أقول،لابد أن يرتق الجميع لمستوى التحدي ومستوى اللحظة التاريخية،وأن نترجم تصوراتنا إلى واقع سياسي وحركي؛فننبذ أميركا ومشاريعها وأدواتها الإقليمية(تركيا وغيرها)،وأن نتوحد على مشروع حضاري مبدئي يحصذنا من مراودة الأشرار وإغراءاتهم؛ خلافة على منهاج النبوة.

التعليقات