الدعاء والبلاء ونصر الله (8)

رسائل الثورة السورية المباركة (107)

9/7/2012

الدعاء والبلاء ونصر الله

(الحلقة الثامنة)

مجاهد مأمون ديرانية

انتهيت مما أريد قوله في هذا الموضوع، وبقيَت كلمة أخيرة أحب أن يقرأها أهلنا المكروبون في سوريا، الذين يدعون الله كل يوم بالنصر وما يزال النصر يتأخر عليهم، وأن يقرأها أيضاً كل من دعا الله في يوم من الأيام ولم يُستجَب دعاؤه، أو تأخرت الاستجابة حتى فات وقت الانتفاع بها.

لعلك -يا أيها الداعي- أصابك الضيق من تأخر إجابة دعائك، ولعلك قلت: لا أشك في أن ما لا يُستجاب من دعائي سيعوضه لي الله بعِوَض يماثله في قيمته أو يزيد، فيصرف عني من الشر مثلَه في الدنيا أو يعوّضني بخير منه في الآخرة. ولكني إنما أردت بدعائي عينَ ما سألت، وأي بديل أو عِوَض لن يكافئ الشيء الذي أردت؛ فإذا كنت -مثلاً- معذّباً في سجون الظالمين فإني لا أريد سوى رفع العذاب، لا أريد أي بديل لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلماذا لا يستجيب الله دعائي وهو دعاء مضطر يائس إلاّ من رحمته؟

هذا سؤال لا يمكن أن يُجاب عنه إلا بالإيمان، فمن آمن بالله وبعلم الله وحكمة الله ورحمة الله وجد الجواب، ومن لم يؤمن لم يطمئنّ قلبُه إلى جواب مهما يكن الجواب. من آمن ذلك الإيمان لم يأسَ على اختيار اختاره له الله، بل إنه ليشعر حينما يِكَل أمرَه إلى الله بالأمان، وإنه ليعلم أن الله ما صرف عنه أمراً إلا لخير ولا أخّر استجابة دعاء إلا لخير. طوبى لمن كان هذا يقينه وهذا إيمانه، سوف يعيش في سعادة واطمئنان.

نحن في معيّة الله كأطفالنا الصغار في معيّتنا نحن الكبار، ولله المثل الأعلى. هل فكرتم يوماً بالطفل الصغير وهو يطلب من أبيه وأمه الطلبات ويتمنى الأمنيات؟ ألا يطلب أحياناً ما يضرّه؟ ما أكثرَ ما يفعل، ولو أن أبويه أجاباه إلى كل ما يريد لضرّاه ولم ينفعاه. نعم، ربما رضي واستمتع في ساعته لحصوله على طلبه، ولكنه سيشقى من بعدُ ويتعب بالتأكيد. إن عقل أبيه وأمه “مصفاة” تحجز ما يضره من الطلبات والرغبات وتمرر منها ما يفيد، ولو قسنا عقله إلى عقليهما لوجدنا فرقاً يسوّغ لهما صنع ما يصنعان.

ولكن فكروا: ما الفرق بين علم الأب وحكمته وعلم الطفل الصغير وحكمته؟ إنه فرق محدود تبدّده بضع سنوات من العمر، عشر أو عشرون، فإذا بلغ ابنك العشرين وما بعدها لم يعد بينك وبينه فرق إلا بما أكسبتك الحياة من تجارب، أما القدرات العقلية فأنتما فيها سواء. يا له من فرق زهيد قياساً بالفرق العظيم بين علم الخالق وعلم المخلوق، بين حكمة الخالق وحكمة المخلوق، فإذا سوّغ هذا الفرق الضئيل للأب أن يختار لابنه ما يصلح له وما لا يصلح، فيمنح ويمنع، أفلا ترون -من باب أَولى- أن يسوّغه الفرقُ الهائل بين الخالق والمخلوق؟

*   *   *

سيقول قائل: وهل في المرض خير؟ هل في الفقر خير؟ هل في الهمّ خير؟ هل في السجن والتعذيب خير؟ هل في اغتصاب المؤمنات العفيفات خير؟ هل في استطالة المحنة وتهديم البيوت وخراب البلاد خير؟ نعم، من آمن بالله حق الإيمان رأى الخير في كل ما يختاره له الله، مهما رآه -بعين المخلوق القاصر- مغلّفاً بالشرور والسيئات. قد لا يعرف أبداً كيف يمكن للشر أن يُثمر خيراً وكيف تتولد المنحة من رحم المحنة، عليه فقط أن يستسلم لاختيار الله الحكيم العليم الرحمن الرحيم. كما قلت لكم قبل قليل: لا جواب لهذه الأسئلة إلا بالإيمان، فمن لم يؤمن لم يجد الجواب.

أمّا أنا فقد آمن قلبي هذا الإيمان منذ دهر، فلا آسى على أمر فاتني ولا أحزن على دعوة تأخرَت إجابتُها، وإني لفي طمأنينة يحسدني عليها الحاسدون. كان لي صديق يخالفني ويفتقر إلى الاطمئنان الذي أعيش فيه، حاججته مرة فقلت له: ها أنت ذا تتحكم في أولادك فتوافق على بعض مطالبهم وترفض بعضاً، ليس الصغار فقط بل حتى الكبار الذين بلغوا مبلغ الرجال، فإن ابنك فلاناً يريد السفر إلى الغرب للدراسة فتأبى عليه، فهل تحسن إليه أم تسيء؟ قال: ويحك يا هذا، أتريد أن ألقي ولدي في النار؟ ألست أنت أصلاً مَن يحذّر الوالدِين من إرسال أولادهم إلى تلك البلدان وهم شبّان لا تُؤمَن على أحدهم الفتنةُ في دينه وعقيدته وأخلاقه؟ قلت: بلى، لم أقل إنك أخطأت، إنما أسأل: لماذا سوّغت لنفسك أن تمنعه؟ قال: لأني أحب ولدي وأعلم ما لا يعلم. قلت: سبحان الله! لأنك تحب ولدك وتعلم ما لا يعلم ترفض إجابة طلبه ولا تجد في ذلك غضاضة، مع أنه يتوهّم أن في رفضك تدميراً لمستقبله، والله الذي يحبك ويعلم ما لا تعلم أضعافَ أضعافِ علمك بما لا يعلم ابنك، الله يختار لك فيجيب بعض دعائك ويمنع بعضاً فتتسخّط وتعترض على قضاء الله، وتقول: ما لي أدعو الله فلا يستجيب الدعاء؟ هلاّ اطمأننتَ إلى علم الله وحكمته كما تحب أن يطمئن ولدك إلى علمك وحكمتك؟ هلاّ رضيت باختيار الله كما تحب أن يرضى ولدك باختيارك؟

نعم، يمكن أن لا يستجيب الله دعاءك يا أيها الداعي، ولكن أما فكرت قط بأن عدم الاستجابة ربما كان رحمة بك؟ إن الإنسان يجتهد فيدعو بما يحسبه خيراً له، ولكن اجتهاده ربما أخطأ وربما أصاب، فإذا أخطأ دعا بالشر من حيث يريد الخير، ولعل هذا المعنى متضمَّنٌ في قوله عز وجل: {ويَدْعُ الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير}. صحيح أن المفسرين لم يذكروه واكتفوا بذكر دعوة المرء على نفسه وولده وماله، ولكني أراه معنىً أظهر وأقربَ إلى الصواب والله أعلم.

ما أكثرَ ما قابلت في حياتي أناساً نظروا إلى الوراء وتذكروا دعوات دعوها ولم يستجب لها الله وأدركوا -في وقت لاحق- أنها كانت شراً لو استُجيبت، فحمدوا الله كما لا يكاد يحمده الفائزون بأعظم الخيرات. أنا نفسي مررت بهذه التجربة مرات كثيرة، وما أشدّ سروري كلما تذكرت دعوة لم تتحقق ثم ظهر شرّها، بل إني ما أزال أتذكر في الحين بعد الحين دعوة اشتد ابتهالي إلى الله وأنا أدعو بها ومكثت عليها زماناً، وأبى الله تبارك وتعالى أن يُجيبها، وكلما فكرت فيها وتذكرتها من بعدُ خررت لله ساجداً شكراً لأنه لم يستجب لها.

*   *   *

يا أيها الناس: لن تحصلوا على الطمأنينة إلا إذا رضيتم بالقدر. إن من صفات المؤمنين أنهم {رضي الله عنهم ورضُوا عنه}؛ الله يرضى عنكم فيختار لكم ما فيه الخير لكم، فارضوا أنتم عن الله برضاكم عن اختيار الله. القدر ماض إلى غايته، فمن رضي به كسب راحة النفس وأجر الرضا، ومن سخط ركبه الهمّ ولم يغيّر من القدر شيئاً. واقرؤوا -إن شئتم- هذا الحديث النبوي العظيم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط”.

أما أنا فيسرّني أن أفكر بأنّ الدعوة أدعوها لا تخلو من أن تجلب لي خيراً أو تدفع عني شَرّين، فإن كان فيها خير استُجيبت، وإن لم يكن صرفها الله عني ولم يستجبها فنجوت من شرها، ولأنه لم يستجبها فإنه يعوضني عنها بصرف شر مقدَّر، فهذا شرّ ثان نجوت منه بفضلها. فأي فوز أعظم من هذا الفوز، وكله ببركة دعاء واحد؟

لقد دعوت الله في حياتي ألف مرة، بل آلاف المرات، واستجاب الله دعائي في مرات لا أحصيها ولم يستجبه في مرات لا أحصيها، ولكني لا أبالي ما دمت راضياً بما يقسمه الله، فإني أعلم أن دعاءً لم يُستجَب لا خيرَ فيه، أو أن في استجابته شراً وضرّاً خفياً لا أدركه بعقلي المحدود، أو أن ما أخّره الله لي من فضل في الآخرة خيرٌ لي مما طلبته منه في الدنيا. وهل تصدقون أو أحلف لكم؟ إني لأفرح اليوم بدعاء ادُّخر لي أكثرَ مما أفرح بدعاء استُجيب. هل هذا لأني عقلت أخيراً؟ أم لأني ازددت إيماناً؟ أم لأن الموت يزيل الغشاوة عن العيون، فكلما اقتربنا منه انكشف قليل منها من بعد قليل، فأبصَر المرء بعين البصيرة مآله ومصيره من بعد الموت، وعلم أن ما هنالك أبقى مما هنا، فتاقت إليه نفسه التوّاقةُ إلى الخير؟ أم أنه جماع ذلك كله؟

أنا أقترب اليوم من الستين، لم يبقَ بيني وبينها غير خمس، فما أطولَ ما قطعت من درب الحياة حينما ألتفت إلى الوراء وما أقلّ ما بقي لي منها حينما أنظر إلى الأمام. لقد ارتقيت وجه الجبل الصاعد منذ زمن وأنحدر اليوم عن وجهه الآخَر، إني أقترب من نهاية ستة عقود، كم أعيش بعد؟ لقد اقتربت من خط النهاية فبدا النقش على بوّابة المغادرة واضحاً بعدما عجزت عن قراءته من بعيد، وإني أقرؤه اليوم وأعيه: “إنما الدنيا رحلةٌ ما أسرعَ ما تنتهي، وإنها سراب”. ما أشدّ فرحي بأجر ادُّخر لي ألقاه وراء الباب إذا عبرت الباب.

*   *   *

نعم يا عباد الله، ربما ضاقت عليكم اليومَ الأرضُ بما رحبت، وربما استأخرتم النصر كما استأخره صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم جاؤوه وهو في فناء الكعبة وقد اشتد عليهم البأس واشتد الضيق فقالوا: “يا رسول الله، ألا تدعوا لنا؟ ألا تستنصر لنا؟”. إنكم تحسّون في هذه الكلمات بضراوة المحنة وتحسّون فيها بثقل المعاناة، فهل كان الله ليختار لصحابة نبيه الكريم شراً أم يختار لهم الخير؟

يا أيها المحزونون، يا أهل البلاء: مهما طال الليل لا بد له من آخر، وإن الكرب إذا تعاظم اقترب الفرج، وإن النصر مع الصبر. في حديث ابن عباس المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّفْ إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله. قد جَفّ القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً”.

لو أردت الشاهد فقط لنقلت السطر الأخير في الحديث، ولكني أحببت أن تقرؤوه كاملاً وأن تربطوا أوله بآخره. انظروا كيف بدأ الحديث بتلك الموازنة العجيبة: حفظ بحفظ ومعرفة بمعرفة؛ مَن حفظ حدود الله وأوامر الله حفظه الله، ومن عرف الله قبل أن يحتاج إلى الله عرفه الله عندما يحتاج إليه. بعد ذلك يحصر هذا الحديث العظيم النفعَ والضرّ بإرادة الله، ولمّا كان الأمر كذلك فلم يَعُد للعبد خيار سوى أن يحصر سؤاله واستعانته بالله، لأن كل ما عدا الله أدوات يسخّرها الله ضمن قدر الله وإرادة الله. وأخيراً تأتي البشارة: إذا اشتد الكرب فلا تحزن، فإن الفرج يأتي من ورائه، وإن العسر يستدرج اليسر، وإن النصر ليركب على مركب الصبر. ولا تنسَ أيها المؤمن بالله وبوعد الله: إن الله لا يختار لك إلا الخير، وإن في صبرك على الأمر الذي تكرهه خيراً كثيراً.

 

لو أنكم عرفتم ذلك كله -يا أيها المؤمنون- ألن تطمئنوا إلى اختيار الله لكم؟ ألن يسركم أن يزداد الكرب وتقابلوه بالصبر فتكسبوا الخير الكثير من رب العالمين؟

هذا المنشور نشر في رسائل الثورة. حفظ الرابط الثابت.

1 Responses to الدعاء والبلاء ونصر الله (8)

  1. سعاد كتب:

    الله ينصركم نصرا مؤزرا عاجل غير اجل

اترك رداً على سعاد إلغاء الرد